ان الله سبحانه وتعالى قد وضع لهذا الكون بما فيه من مخلوقات خلقها قانون واحد لاغير ونظام متوازن يحكم كل شيء، وهذا عكس ما يدعيه بعض العلماء بفوضوية الكون، وهذا القانون متوازن وعادل ولا خلل فيه ولكن بالنسبة للبشر فأن هذا القانون غامض غير معروف بسبب ادراكهم المحدود. بتأمل الاية الكريمة (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) [الرحمن: 7] وعظمة كل كلمة فيها نجد إن الميزان الذي رفع الله به السماء هي نعمة من نعم المولى عز وجل ينبغي التفكر فيها، وهي معجزة إلهية لم يتمكن العلماء من كشف أسرارها إلا في أواخر القرن العشرين، وهذا يشهد على إعجاز هذه الآية الكريمة.
قصة النبي شعيب عليه السلام والميزان:
أرسل الله تعالى شعيبا إلى أهل مدين وكانوا يعبدون الأيكة (وهي شجرة) وكانوا ينقصون المكيال والميزان ولا يعطون الناس حقهم فدعاهم الى عبادة الله وان يخافوا الله في تعاملاتهم مع الناس، فقال تعالى (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) [هود: 84]. ينتقل النبي إلى قضية المعاملات اليومية، قضية الأمانة والعدالة وكان أهل مدين ينقصون المكيال والميزان، ولا يعطون الناس حقهم. فجاء نبيهم وأفهمهم ان هذه سرقة وأنه يخاف عليهم من عذاب يوم القيامة (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود: 85] ولايزال شعيب عليه السلام يدعوهم ويوصيهم أن يوفوا المكيال والميزان بالعدل والحق ويحذرهم من أن لا يقللوا من قيمة أشيائهم وان الاشياء لاتقتصر على البيع والشراء وانما تشمل الاعمال اي اياكم من ظلم الناس في معاملاتكم واعطاء الاجير اجره كاملا من غير نقص. واذا لم تنتهوا مما انتم عليه من كفر وعصيان فأن كل هذا سوف يؤدي الى انهيار المجتمع ودماره وهذا ما كان عليه نهاية قوم شعيب بعد رفضهم ان يستجيبوا لدعوة نبيهم فكان عقابهم غضب الله عليهم بأن أوحى الله إلى شعيب أن يخرج من القرية ويأخذ معه المؤمنين وجاء أمره تعالى وهي صيحة واحدة (صوت جاءهم من غمامة أظلتهم) ولعلهم فرحوا بما تصوروا أنه ما تحمله من المطر ثم فوجئوا أنهم أمام عذاب يوم عظيم وكانت نهايتهم جاثمين بدون اي حركة في ديارهم من هول الصيحة [1].
ما جاء عن لسان المفسرين في كلمة الميزان
في هذا الجانب سوف اذكر مختصرا ما جاء عن لسان بعض المفسرين واخترت منهم القرطبي وابن الكثير رحمهم الله واثابهم، لابين ان كل ما جاءوا به اجمالا وتفصيلا عن الميزان هو العدل في المعاملات، فما جاء في تفسير القرطبي من قوله تعالى: " وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ " أي بالاعتدال في الأخذ والعطاء عند البيع والشراء. والقسط: العدل.
وقوله: "والسّماءَ رَفَعَها" يقول تعالى ذكره: والسماء رفعها فوق الأرض. وقوله: "وَوَضَعَ المِيزَانَ" يقول: ووضع العدل بين خلقه في الأرض. وقوله: "ألاّ تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ" يقول تعالى: ألا تظلموا وتبخَسُوا في الوزن. وقوله: "وأقِيمُوا الوَزْنَ بالقِسْطِ" يقول: وأقيموا لسان الميزان بالعدل. وقوله: "وَلا تُخْسِرُوا المِيزَانَ" اي ولا نتقصوا الوزن إذا وزنتم للناس وتظلموهم. والاية الكريمة (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود: 85] يقول تعالـى أوفُوا الناس الكيـل والـميزان بـالقسط, بـالعدل. ونوجز عن ابن الكثير في تفسيره للاية الكريمة (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) [الرحمن: 7] يقول فيها بما معناه ان الله خلق السموات والارض بالعدل لتكون الاشياء كلها بالحق [2]. هذا ما ورد عن المفسرين ولكن لكل زمان تفسير لان القرآن جاء متكامل ويتفق مع كل عصر وبما انه الان نحن في عصر التكنلوجيا الحديثة وعصر غزو الفضاء فلا بد من تفسير يتفق مع هذا التقدم وهذا ما اقدمت عليه في هذه الدراسة هو تفسير لكلمة الميزان وما تتفق مع العلم الحديث وصدق من قال " وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا " [الاسراء].
ما هي العلاقة بين رفع السماء والميزان؟
ان القرآن الكريم تحدث بدقة عن رفع السماء وبناءها، فكلمة سماء تطلق على كل ما علا وارتفع فوقنا والذي هو بمثابة سقف لاهل الارض حيث يرتفع الاف الكيلومترات فوق سطح الارض وهوالغلاف الجوي المحيط بالارض، والذي يقسم الى عدة مناطق وحسب الخصائص الحرارية والكيميائية للغازات المتعادلة والمتأينة التي تحتويها. فلو اخذنا على سبيل المثال احدى هذه الطبقات وهي طبقة الايونوسفير لاهميتها في الاتصالات ونقل الموجات الراديوية وبما عهد الله لهذه الطبقة من امكانية عكس هذه الموجات وفي قوله تعالى (والسماء ذات الرجع)، واذا استعرضنا هذه الطبقة وما تحويه من كثافة الكترونية نجدها مقسمة الى المناطق التالية:
مدى امكانية طبقة الايونوسفير من عكس الموجات الراديوية بأستخدام هوائيات خاصة
طبقة D: تمتد من ارتفاع 50-90 كم تقريبا بأعظم كثافة الكترونية تحدث بعد الظهر ما بين (109-108) الكترون لكل متر مكعب اما في الليل فأن التأين في هذه الطبقة معدوم.
طبقة E: تمتد من ارتفاع 90-130 كم تقريبا بأعظم كثافة الكترونية تحدث تقريبا في منتصف النهار اي ظهرا بالتوقيت المحلي وبقيمة (1011) الكترون لكل متر مكعب وفي الليل تقريبا التأين واطيء جدا يكاد يختفي.
طبقة F1: وتقع بين ارتفاع 130-210 كم تقريبا بأعظم كثافة الكترونية تكون في الظهر (2x1011) الكترون لكل متر مكعب وهي مثل طبقة E تختفي ليلا.
طبقة F2: وهي اعلى طبقة وتمتد من ارتفاع 210-500 كم تقريبا، وتظهر اعلى كثافة الكترونية من بين كل الطبقات بحيث يصل في النهار الى (1012) الكترون لكل متر مكعب، اما في الليل فتصل الكثافة الالكترونية الى (5x1010) الكترون لكل متر مكعب.
الشكل يبين طبقات الايونوسفير في الليل والنهار والتي توضح العلاقة بين درجة التأين بوحدات (عدد الالكترونات لكل سنتمتر مكعب) كدالة للارتفاع بالكيلومتر.
ويجدر الاشارة الى انه في كل طبقة من هذه الطبقات هنالك توازن مستمر بين عمليات التفكك للذرات والجزيئات الموجودة فيها والمتولدة بفعل الاشعة السينية والفوق البنفسجية ذات الطاقات العالية القادمة من الشمس والمتمثلة بالاشعة الكهرومغناطيسة وبين اعادة الاتحاد لهذه الايونات المتولدة وان هذا التوازن يشمل كل طبقة من طبقات الجو ويمكن ان نمثل هذا التوازن بمعادلة الاستمرارية. كما وجد ان هنالك علاقة ربط بين ما تحويه كل طبقة من كثافة الكترونية وبين درجة حرارة تلك الطبقة وبما ان درجة الحرارة ترتبط بالطاقة بعلاقة رياضية وهذا ما توصل اليه العالم ستيفان بأن كمية الطاقة تتناسب طرديا مع الاس الرابع لدرجة الحرارة وهذا يعني انه هنالك توازن بالطاقة لكل طبقة من الطبقات. ومن خلال الدراسة والبحث في مواقع الانترنيت لوكالات الفضاء وجدت بحث منشور للباحث مارك دافيس وهو احدعلماء وكالة الفضاء الامريكية ناسا يقول فيه ان هنالك توازن بالطاقة التي تحكم هذا الكون بنص العبارة[ balance ] ب.(3)
القوى التي تحكم الكون وتجعله متزنا
لو تأملنا هذا الكون الواسع لوجدنا انه يتكون من وحدة بناء صغيرة جدا الا وهي الذرة وان من تجمع هذه الذرات تتكون الجزيئات ويجدر الانتباه الى ان ترتيب هذه الذرات والجزيئات لايكون عشوائي وانما وفق نظام متوازن ومنتظم تحكمه قوى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز) ٌ[الحديد: 25]. وفيما يلي نذكر القوى التي تؤثر في الاجسام عامة من اضعفها الى اقواها
1- القوة الجاذبية: وهي اضعف القوى الموجودة في الطبيعة وعلى الرغم من ضعفها الا انها القوة الوحيدة من بين هذه القوى التي يظهر تأثيرها على مسافات بعيدة وسحيقة من هذا الكون، فهي التي تربط الكواكب بالشمس وفيما بينها وتمنع الاجسام من التطاير.
2- القوى الضعيفة: ويطلق عليها ايضا بالقوى النووية الضعيفة وهي القوة الناتجة من انحلال النيوترون داخل النواة الى بروتون والكترون ونيوترينو وهذا الانحلال ناتج من بعض الفعاليات الاشعاعية، وان تأثير هذا النوع من القوى لا يتعدى تأثيره حدود نواة الذرة.
3- القوة الكهرومغناطيسية: وهي قوة شدتها اضعاف شدة القوة الجاذبية ببلاين المرات، ومهمة هذا النوع من القوى تقوم بربط الذرات والجزيئات وجعلها متماسكة مع بعضها البعض اي ان تأثيرها يظهر بين الجسيمات الحاملة للشحنات الكهربائية وبواسطة هذه القوى تنتظم مدارات الالكترونات حول النواة. ان تأثير القوة الكهرومغناطيسية يصل الى مسافات بعيدة فهي التي تحافظ على دوران الالكترونات حول النواة. فيالروعة هذا التوازن ودقة الصنع فأبسط تغير في هذا النظام سوف يؤدي الى انقلاب الكون.
4- القوى النووية: وهي اقوى القوى الموجودة في الطبيعة تقدر بألف ضعف مرة اقوى من القوة الكهرومغناطيسية، والتي تساعد على جمع البروتونات في حيز واحد داخل النواة فلولاها لما اجتمع بروتونان في مكان واحد وان مجال تأثيرها لايتعدى نواة الذرة [4].
ان هذا الحساب الدقيق على مستوى الذرة هو الذي يحفظ التوازن في الكون الذي يبلغ من السعة تفوق التصور والحساب فأن غياب اي قوة من هذه القوى سوف يؤدي بالكون الى الانهيار ولا يسعني الا ان اقول احمد الله واشكره على هذه النعمة (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191]. ولو بحثنا في كتاب الله لوجدنا ايات تتحدث عن هذه القوى التي تجعل الكون متماسك وقوي بقوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) [النازعات: 27] والعلماء اليوم يؤكدون على ان القوى الموجودة في الكون تفوق التصور وفي هذه الاية اشارة واضحة الى هذه القوى التي تطرقنا اليها من خلال كلمة (اشد) والتي تعني القوة والترابط. [5]
ما الذي يجعل حرارة الارض متوازنة؟
للاجابة على هذا السؤال يجب ان نتحدث اولا عن مصدر هذه الحرارة. تعتبر الشمس مصدر لكل الطاقة التي تمدها لمحيطات الارض وجو الارض وان هذه الطاقة تستخدم لتسخين الارض بحيث تقوم برفع درجة حرارتها. ان التوازن في طاقة الارض هو مفهوم استخدم لفهم كم من الطاقة تأخذها الارض من الشمس، وما هي مقدار الطاقة التي تشعها الارض ثانية الى الفضاء الخارجي كضوء غير مرئي. فاذا احتفظت الارض وجوها بالطاقة الشمسية اكثر مما تشع في هذه الحالة الارض سوف تسخن وترتفع درجة حرارتها، اما اذا شعت الارض وجوها اشعاع اكثر مما استلمت في هذه الحالة الارض سوف تبرد. فلذلك اخذ العلماء يفكرون في التوازن الحراري للارض وعبروا عنها بشكل ميزان (balance). ففي حالة احتفاظ الارض بكمية اكبر من طاقة الشمس في هذه الحالة سوف تنبعث طاقة على شكل اشعة تحت الحمراء اكثر التي تجعلها متوازنة حراريا. أما اذا بعثت الارض طاقة اكثر مما استلمت ففي هذه الحالة الارض تبرد وعندها سوف تبعث طاقة اقل، ان هذا التعبير ايضا يقود الى التوازن الحراري.
الإشعاعات غير المرئية التحت الحمراءالمنبعثة من الأرض والإشعاعات المنعكسة من الجو بواسطة الغيوم وغاز ثنائي اوكسيد الكاربون تجعل الارض متوازنة حراريا
ان امتصاص الاشعة من قبل الارض يرفع من درجة حرارتها وأن انبعاث الاشعاع او الحرارة من الارض يقلل من درجة حرارتها. عندما تمتص الارض اشعة الشمس وتبعثها على شكل طاقة فأن حرارة الارض لا تتغير- في هذه الحالة يحصل التوازن الحراري- [ The Radiation Budget is in Balance ]. ب(6)
التوازن الحراري للأرض
تعقيب
ان الله سبحانه وتعالى وضع هذا الكون بشكله المتوازن وان اي خلل في اي نسب من مكونات هذا الكون سوف يؤدي به الى الانهيار والانقلاب رأسا على عقب وتقوم القيامة، قال تعالى (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى: 17]، وهذا ما تطرق اليه احد الباحثين حيث تحدث عن احدى الظواهر التي سببها الانسان في الاخلال في هذا الميزان الذي وضعه الله وسخره لخدمة البشر، الا وهي ظاهرة الاحتباس الحراري [7].